Home أخبار نوفل سلامة يكتب/ أي معنى لاستقلالية البنك المركزي: المخاطر والرهانات الكبرى…

نوفل سلامة يكتب/ أي معنى لاستقلالية البنك المركزي: المخاطر والرهانات الكبرى…

0 second read
2
0

كتب: نوفل سلامة

مسألة استقلالية البنك المركزي من المسائل التي لم تحظ بإجماع واسع حول أهميتها ومن خيارات الثورة التي لاقت معارضة شرسة منذ الإعلان عنها في سنة 2016، حينما صادق مجلس نواب الشعب على هذا التمشي الجديد الذي أصبح بموجبه هذا الجهاز الهام مستقلا عن السلطة الحاكمة وخاصة عن السلطة التنفيذية ولم يعد تابعا لها ..

نقاط استفهام

واليوم لا يزال موضوع الاستقلالية يثير الكثير من نقاط الاستفهام في علاقة بالسياسة المالية للدولة ودور هذا الجهاز في عضد جهد الحكومات في زمن الأزمات والوقوف إلى جانبها خلال مرورها بفترات التقلبات الحرجة والصعوبات المالية المؤثرة .. ولا تزال هذه القضية تسيل الكثير من الحبر وتثير المواقف حول صواب هذا الخيار في علاقة مسألة الاستقلالية بمسألة السيادة الوطنية وعلوية الدولة وهيمنتها على كل أجهزتها وخضوع كل الهياكل الموجودة داخل التراب الوطني للدولة.

وقد عاد الحديث مرة أخرى وبإلحاح شديد حول فكرة استقلالية البنك المركزي عن السلطة التنفيذية وخيار فك ارتباط هذا الجهاز الحساس عن الدولة التي يتبعها بعد أن تفاقمت الأزمة المالية الحالية بعد مسار 25 جويلية والتحول الذي شهدته منظومة الحكم وكل الصعوبات التي يعيش على وقعها القطاع المصرفي والمخاطر التي تعرفها المالية العمومية جراء صعوبة توفير السيولة اللازمة لتمويل نفقات الدولة وخلاص مزوديها العموميين وسداد ديونها و ما تحتاجه من بضائع ومواد حياتية موردة بالعملة الصعبة.

خيار سياسي؟

ولأهمية هذه القضية وفي محاولة لفتح الموضوع من جديد ، ارتأت مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات أن تساهم في هذا النقاش المجتمعي الذي يدور حول قضية الاستقلالية التي منحت للبنك المركزي و أن تجري حوار هادئا ولكن بلغة العلم والمعرفة حول هذا الخيار السياسي الذي أقدمت عليه الدولة التونسية بعد الثورة وأن تضع فكرة أن يكون البنك المركزي مستقلا وعلى مسافة من تدخل السياسي والجهاز التنفيذي على طاولة النقاش وأن تسائل الأفكار التي تقاوم من أجل أن يتم التراجع وأن يتم العود عن فكرة الاستقلالية وأن تحاور العقل الاقتصادي والمالي الذي يرى الأمر الطبيعي في أن يكون البنك المركزي تابعا للدولة وفي خدمتها بدل أن يكون مستقلا عنها وذلك باستضافة الدكتور ياسين بن اسماعيل الجامعي والباحث في السياسات الاقتصادية والقضايا المالية والنقدية في ندوة التأمت صبيحة يوم السبت 6 ماي 2023.

هل من فائدة ترجى؟

والسؤال المطروح هل من معنى وهل من فائدة ترجى ونفع يعود على الحكومات وعلى الشعوب حينما تعطى للبنوك المركزية صلاحيات تجعل منها أجهزة مستقلة بذاتها عن حياة الحكومات وتأثيراتها وعن الدول التابعة لها؟
وإذا كان الجواب بنعم فبأي صورة وأي طريقة تكون هذه الاستقلالية؟ ويتبع هذا السؤال المدخل سؤال آخر يتعلق بالمفهوم الذي أعطي لمعنى الاستقلالية ومدى التزام البنوك المركزية بجوهر الاستقلالية والغاية الرئيسية التي قام عليها هذا الخيار وهذا التوجه في إدارة المسألة المالية؟
وفي علاقة بالحالة التونسية هل أفادت فكرة استقلالية البنك المركزي التونسي الدولة التونسية ؟ وهل حافظ هذا الجهاز على غايات الاستقلالية وساعد على تطوير عمل الحكومة وساهم في حل الأزمات المالية التي تطرأ ؟ أم تحول هو نفسه إلى أزمة جديدة حادة ترهق الدولة وتضاف إلى أزمات الحكومة الأخرى وزادت من تعميق ارتهان الدولة للخارج وارتباطها بالأجنبي في علاقة بموضوع السيادة الوطنية واستقلال القرار السيادي؟
كانت هذه هواجس الندوة التي أجاب عليها الدكتور ياسين بن اسماعيل بكل وضوح ووثوقية علمية معتبرا أنه من الأخطاء الفادحة التي ارتكبت بعد الثورة ومن الخيارات الخاطئة التي سارت عليها البلاد جعل البنك المركزي مستقلا عن الدولة وسحب المسؤولية منه في تحديد المالية العمومية ذلك أن الحالة الطبيعية والوضعية السليمة هي التي يكون فيها هذا الجهاز تابعا للدولة وفي خدمتها وتحت رقابتها بصفته المسؤول الأول عن الاقتصاد المالي والنقدي داخل الدول والمسؤول عن المالية العمومية للحكومات حيث تعود إليه وحده المسؤولية في طباعة الأوراق المالية وتحديد نسب الفائدة  ومعالجة مسألة التضخم وإقراض الدولة في زمن الأزمات المالية والوقوف مع الحكومات في فترات الركود المالي ويلعب دورا كبيرا في عملية الاستثمار من خلال توفير السيولة اللازمة والمطلوبة ما يجعله مؤثرا في عملية النمو الاقتصادي هذا إلى جانب دوره الرقابي في متابعة نشاط القطاع المصرفي ومراقبة البنوك وما توفر لديها من ودائع لخدمة الدورة الاقتصادية وهو يتدخل في مراحل الركود التي تمر بها الحكومات ويراقب كل عملية مصرفية و تحويل للعملة الأجنبية لضمان سلامة هذه المعاملات المالية وشفافية الأنشطة المصرفية ..

المفيد هو في أن يعمل البنك المركزي في تناغم مع الحكومة وأن يسندها بالسيولة اللازمة وفي مراقبة حركة المال في البلاد وكل التدفقات والتحويلات المتأتية من الخارج ويعمل على الحفاظ على قيمة العملة الوطنية وضمان عدم تراجعها في علاقة بالعملات الأجنبية المؤثرة وخاصة الدولار واليورو.. هذا الدور وهذه الوظيفة التي يضطلع بها البنك المركزي قد تم سحبها منه بعد قرار الاستقلالية الذي اتخذ في سنة 2016 والذي نزع منه أهم مهامه السيادية وهو كونه المقرض الأخير للدولة والممول الرئيسي لخزينتها وذلك تنفيذا لدوره المباشر تجنيب الحكومة مخاطر الاقتصاد.

نتائج كارثية

ويواصل الدكتور ياسين بن اسماعيل هذا التحليل في علاقة البنك المركزي بالحكومة فيعتبر أن من النتائج الكارثية لمسألة استقلاليته المزعومة عن الجهاز التنفيذي أن أصبحت البنوك التجارية العادية هي الممول والمقرض الوحيد لخزينة الدولة بدلا عنه بما جعل من هذه البنوك تتفوق على الدولة وتتمرد على الحكومات، وفي هذا إهانة للصورة الاعتبارية للدولة ولدورها السيادي حينما يتم تحييد البنك المركزي وإبعاده عن التأثير في الحياة المالية والاقتصادية ومنعه من أن يلعب دوره الأساسي في إسناد الدولة بالسيولة اللازمة..
ومن المخاطر الأخرى لمسألة الاستقلالية ما حصل ويحصل من تحريف للتشريعات وخروج عن أهم مبادئ البنوك وهو الحفاظ على مدخرات الأفراد وعدم التصرف فيها تحت أي مبرر من المبررات فما حصل هو أنه نتيجة لمنع البنك المركزي من تمويل الخزينة العامة للدولة وإيقاف اقراضها مباشرة منه وإعطاء هذه المهمة للبنوك التجارية الخاصة أن تصرفت هذه الأخيرة في مدخرات الأفراد وتحويلات عمالنا بالخارج وإقراض الدولة من هذه المدخرات الخاصة في عملية تحيّل وسرقة وتوظيف غير قانوني لهذه الودائع الخاصة للأشخاص غير المقيمة بتراب الوطن الذين ائتمنوا هذا الجهاز المصرفي على أموالهم الخاصة التي لا يجب أن تذهب نحو استعمالها في اقراض الدولة.

المهام السيادية

وينهي الدكتور ياسين بن اسماعيل حديثه عن مخاطر قرار استقلالية البنك المركزي بالقول إن نزع المهام السيادية والسلطانية لهذا الجهاز في أن يكون المقرض الأخير للقطاع المصرفي وللخزينة العامة وإلغاء دوره في تسهيل حصول  الدولة على السيولة المالية وفي أن يكون هو وحده الممول للدولة قد زاد من تعكير الوضع المالي للبلاد وزاد من إحراج الدولة وعمق الأزمة المالية الحالية للحكومة من أجل ذلك فإن الحاجة ملحة اليوم إلى اتخاذ قرار شجاع وجريء وموقف سيادي ضروري يتمثل في الذهاب نحو مراجعة فكرة الاستقلالية والتراجع عن هذا القرار وإرجاع البنك المركزي إلى سالف دوره ومهمته الأساسية وهو أنه جهاز تابع للدولة ويأتمر بقراراتها ويعمل وفق سياساتها ولا يمكن أن يكون مستقلا عنها ومرتبط بجهات خارجية من مصلحتها أن يبقى البنك المركزي خارج المشهد المالي والاقتصادي للدولة ليكون المدخل المباشر للتدخل في الشأن الداخلي للدول والتأثير في السياسات العامة وإحكام قبضة الارتهان للقرار الخارجي ودوائر التأثير العالمي فالمسألة مسألة سياسية بامتياز تتجاوز الخصومة التقليدية بين مختلف السلط والهياكل داخل الدولة ومسألة عدم تدخل سلطة في مهام سلط أخرى.  

تحليل رافض

كان هذا تقريبا رأي الدكتور ياسين بن اسماعيل من مسألة الاستقلالية التي منحت للبنك المركزي في سنة 2016 وهو تحليل ينتمي إلى الاتجاه المعادي والرافض لفكرة الاستقلالية لما لها من مخاطر أتينا على البعض منها وفي المحاضرة استشهاد بأقوال كثيرة لكبار المفكرين والعلماء في الاقتصاد ومن تناولوا المسألة المالية والسياسات النقدية في علاقة بمسألة الاستقلالية وبدقة مهام البنوك المركزية في العالم .
ولكن و بقطع النظر عن مسألة الاستقلالية وكل الحديث عن مخاطرها على نشاط الدولة وبقطع النظر عن المعنى الذي أعطي لها والتساؤل هل هي استقلالية وظيفية أم لا ؟ وهل تلعب الاستقلالية دورا في محاربة التهرب المصرفي ؟ وهل تكرس تمرد البنوك العادية وتزيد من اضعاف مكانة الدولة ؟ فإن تحليل الدكتور قد خلّف الكثير من الأسئلة وأثار ردود فعل كثيرة وفتح نقاشا جديدا يحتاج هو الآخر محاضرة أخرى للاستماع إلى الرأي في الضفة الأخرى والصوت المخالف لما ذهب إليه الدكتور بن اسماعيل في محاولة لإكمال المشهد وطرح المسألة في شموليتها خاصة وأن هناك من يعارض هذا التوجه ويعتبر أن اقرار مبدأ استقلالية البنك المركزي عن السلطة الوظيفية هو قرار صائب ومفيد وهو توجه عالمي في الفكر الاقتصادي الجديد الذي يعتبر أن إبقاء البنوك المركزية تحت هيمنة الدولة وجهازها التنفيذي فيه توظيف لهذا الجهاز في خدمة السلطة الحاكمة والحزب الحاكم حينما يتم اسنادها بالمال للظهور بمظهر المتعافي من الأزمات وفيه تزوير للحقيقة المالية للدولة حينما تحصل الأزمة ولا يتم الاقرار بها  ويتم تغطيتها من طرف البنوك المركزية التي تتدخل وتنقذ الحكومات الفاشلة بالأموال من أجل ذلك وحفاظا على حقيقة الوضع الاقتصادي والمالي للدولة وحرصا على شفافية المعاملات المالية وتجنبا لإخفاء فشل الحكومات في تسير الشأن العام تم اقرار استقلالية البنك المركزي عن الجهاز التنفيذي حتى لا توظفه الحكومات ولا تستعمله لإخفاء اخفاقاتها التنموية وهو توجه أقره الاتحاد الاوروبي ضمن معاهدة ماستريخت وطبفته الكثير من الدول مثل الصين وألمانيا وانقلترا وفرنسا ومن الدول العربية الأردن و مصر وغيرهما.

من يراقب البنك المركزي؟

ولكن ألا يثير هذا الاتجاه العالمي وهذه الاستقلالية الممنوحة للبنوك المركزية أسئلة أخرى في علاقة بمن يراقب البنك المركزي إذا ما لم يحقق الأهداف التي رسمت له في تنفيذ مهامه ؟ و من يسائل محافظ البنك المركزي عن أفعاله وقراراته ؟ وما هي آلية الرقابة المتوفرة على البنك المركزي حينما لا يخضع إلى سلطة الدولة التي ينتمي إليها ؟ ثم ما قيمة وجود البنك المركزي في دولة لا تستفيد حكومتها بخدماته ولا تعول عليه في حل مشاكلها المالية ومعالجة أزمة السيولة التي تحدث لها ؟ ثم ألا تعمق مسألة الاستقلالية تراجع دور الدولة ومزيد ارتهانها للخارج في علاقة بالذهاب إلى الاقتراض الأجنبي بعد أن تعطل الاقتراض من المقرض الأخير والأساسي للدولة ؟
يبدو أن مسألة استقلالية البنوك المركزية عن حكوماتها غير محسومة في الفكر الاقتصادي المعاصر ويبدو أن تجارب الدول في هذا الخيار متفاوتة بين التجارب الفاشلة والأخرى الناجحة حيث أظهرت بعض الدراسات التي أجريت حول هذا الموضوع أن البنوك المركزية التي كانت أكثر استقلالية كما هو الحال في تجربة ألمانيا والنمسا وسويسرا قد حققت معدل تضخم أقل بين عامي 1970 و1999  من البنوك المركزية التي تربطها علاقات وثيقة  بحكوماتها كما هو الحال في دولة النرويج ونيوزيلندا وإسبانيا لكن هذه الدراسات قد أوضحت كذلك أن الأمر ليس ثابتا ولا مستقرا على الدوام بالنسبة لكل الدول في علاقة بأهمية الاستقلالية وفائدتها حيث اتضح أن هذه العلاقة قد أصبحت أضعف في الألفية الجديدة مع ظهور العولمة وانتشار استعمال عملة اليورو واختيار الدول أنظمة حكم رئاسية أين يتدخل الرئيس في المسألة المالية كما هو الحال في دولة تركيا التي تتبع خيار استقلال البنك المركزي عن الجهاز التنفيذي و لكن هذه الاستقلالية لم يمنع الرئيس رجب طيب أردوغان من التدخل حينما لاحظ الخلل المتواصل في الجانب المالي وقام بإقالة محافظ بعد محافظ نتيجة عدم  توافقهم على رؤيته بالنسبة لأسعار الفائدة.
ومع كل هذه المعلومات العلمية التي قدمها الدكتور ياسين بن اسماعيل عن مسألة استقلالية البنك المركزي والمخاطر الكثيرة الناجمة عنها وما تم رصده في تجارب الدول في العالم التي اختارت تمشي فك ارتباط الجهاز المصرفي عن الحكومات و الفوائد التي تعود على الناحية المالية والاقتصادية فإن الموضوع يبقى محل متابعة وقد يحتاج من مؤسسة التميمي إلى برمجة ندوة أخرى يكون موضوعها فكرة الاستقلالية هذه ومحاضرة ثانية لتفكيك الخطاب المؤيد والخطاب المعارض لهذا الخيار المثير للجدل.

المصدر : الصريح

Load More Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Check Also

اتحاد الفلاحين: ''أسعار أضاحي العيد تُعتبر معقولة''

اتحاد الفلاحين: ”أسعار أضاحي العيد تُعتبر معقولة” أكد مساعد رئيس الاتحاد التون…