
كتب: د. أحمد القديدي
مَن مِن التونسيين لا يعرف السيد محمود بلحسين رحمه الله وهو سكرتير الحبيب بورقيبة الخاص منذ سنة 1937 وهو الذي يعرف الزعيم أكثر من أي مسؤول مقرّب من بورقيبة…هو الذي يسكن معه في قصر قرطاج ويسبح معه في البحر ومنذ 1955 تاريخ عودة الزعيم من المنافي يتغدى ويتعشى معه يوميا بإرادة الزعيم و إصرار…
إلى السجن
ثم عندما وقع ما يسمى تحول 7 نوفمبر 87 أي يوم انقلب الجنرال زين العابدين بن علي الوزير الأول على بورقيبة حسب البند 57 من الدستور بحجة صحيحة، وهي أن الرئيس مدى الحياة بورقيبة لم يعد قادرا على مباشرة أعباء الرئاسة صحيا، وأنه بلغ أرذل العمر كان محمود بن حسين أول من وضعه بن علي في السجن (مع الهادي عطية ومنصور السخيري المشهورين بكونهما من خصوم بن علي ومن حرس الرئيس المعزول و المستعدين لإثارة البلبلة و حشد التونسيين لإجهاض الإنقلاب الأبيض)…
وبقي محمود بلحسين في سجن 9 أفريل عامين بلا محاكمة حقيقية لأن عميد قضاة التحقيق آنذاك كان يصنع التهم من لا شيء ويحيل بها من يأمر النظام بسجنه!
ولأن زين العابدين يعتبره من ألد أعدائه الشخصيين وأنه (كما رواه لي شخصيا بن علي نفسه في فيفري 2000 وهو رئيس جمهورية) يتعاون مع الجنرال لاكوست رئيس المخابرات الفرنسية و يبعث اليه بتقارير سرية عن كل ما يقوم به الزعيم وما ينوي فعله وخاصة تقارير موجهة ضد بن علي لمنعه من الوصول للحكم!
غادر إلى فرنسا
وعندما أطلق سراح محمود بلحسين عام 89 بتدخل من الحكومة الفرنسية عاد إلى فرنسا (التي يحمل جنسيتها ووسام الشرف منها) و استقر في بيت زوجته الفرنسية أم أبنائه الثلاثة (مادلين) وهي امرأة أصيلة كان بورقيبة يسميها (لا سنت…أي القديسة لأخلاقها العالية و بعدها عن عصابات نساء الحاشية ومناورات وسيلة زوجته وسعيدة ساسي بنت أخته)… المهم سكن محمود في جواري بالصدفة في ضاحية باريسية ريفية اشتريت فيها منزلي وأصبحنا صديقين لا نتفارق الا ليلا، وكنت مغرما بجمع التاريخ و تدوين الحقائق و الأسرار من تاريخ تونس لأن محمود بلحسين (المولود عام 1918 يعتبر الصندوق الأسود لخفايا القصر وحياة بورقيبة منذ 1937 و طبعا كنا أنا وهو من دائرة الزعيم بورقيبة كل في موقعه…
أسرار غريبة
فأسر لي على مدى 12 سنة من صداقتنا أسرارا غريبة عن الزعيم ومواقفه مع وزرائه و “الماجدة” زوجته و سعيدة بنت أخته و يوما سألته: يا سي محمود يا خويا بالله هل صادف أن ارتكبت أنت خطأ أو زلة مع بورقيبة و ندمت عليها؟ فقال لي: مرة واحدة شعرت أني جرحته وتجرأت عليه و أبلغته شيئا أغضبه علي إلى حد أنه ألقى علي مزهرية كريستال كانت على مكتبه الحمد لله أنها أخطأت رأسي فسألته كيف ذاك؟
وحكى لي هذه الحكاية: ” ذات ليلة كنا في بيت الهادي نويرة وزيره الأول في السبعينيات ومعنا بعض الوزراء نلعب لعبة الرامي (لعبة كوتشينة تونسية معروفة) كالعادة وأحيانا يعزف لنا جليسنا الموسيقار صالح المهدي على العود قطعة مالوف (من التراث الأندلسي)… ولكن في تلك السهرة قطع نويرة اللعبة وقال لنا :”إن الرئيس يفكر في اتباع النمط الأمريكي للحكم الذي أقنعه به الرئيس كارتر والذي يقتضي تعيين نائب لرئيس الجمهورية من باب الإحتياط من الدهر و المرض و الفراغ الدستوري على رأس السلطة!
وأضاف الهادي نويرة أنا لا أرى غير الحبيب بورقيبة الإبن (وهو الإبن الوحيد للزعيم المكنى بيبي) نائبا لوالده فهو من صلبه وأقرب الناس إليه! ويجنبنا مفاجآت قدوم غريب عنا يستولي على السلطة و يقيلنا جميعا!
مهمة صعبة!
ووافق الحاضرون خشية دخول عنصر مفاجئ الى أعلى هرم السلطة تفرضه وسيلة أو سعيدة! وواصل محمود بلحسين يروي لي القصة ثم التفت نويرة الى سي محمود، وقال له لا نرى غيرك يا محمود تقدم اقتراحنا الى “المجاهد الأكبر” فتردد بلحسين و “شمها قارسة” كما يقول المثل التونسي أي توجس منها خيفة لأنه أعرف الحاضرين بالزعيم و مزاجه العصبي ثم تحت إلحاح الجميع و إجماعهم قبل المهمة صاغرا مضطرا…
مزهرية على رأسه!
وهنا أترك الكلام لسي محمود الذي قال: “بعد إفطار الصباح ونحن في مكتب الرئيس استجمعت شجاعتي وقلت له: سيدي الرئيس إن أعضاء الحكومة وعلى رأسهم وزيركم الأول الهادي نويرة طلبوا مني ليلة أمس إبلاغ فخامتك اقتراحهم! فاهتم الرئيس بالموضوع وسألني: خير إنشالله؟
وأجبت متلعثما : فخامة الرئيس يقترحون عليكم تعيين بيبي (أي بورقيبة الإبن) نائبا لرئيس الجمهورية فهو من صلبكم ومحل ثقتكم! وهنا يقول بلحسين قام بورقيبة بإلقاء المزهرية في وجهي مستهدفا رأسي وهو في ثورة غضب كبيرة صارخا في غضبة من غضباته الشهيرة: أغرب عن وجهي أنت و أعضاء الحكومة فولدي “خاطيه الحكم” أي ليس مؤهلا للمنصب مضيفا: ” النار تخلف الرماد” و أعادها بورقيبة “النار تخلف الرماد” قل لهم: “ما يدبر عليّ حد!”
وساواصل في مناسبات قادمة سرد هذه الذكريات معكم حتى تعرفوا بواطن الحكم لا ما يظهر على السطح…
والله على ما أقول شهيد!
المصدر : الصريح